تكويت الوظائف العامة: كيف يمكن علاج التحديات المتقاطعة
في سبتمبر القادم، تنتهي خطة الحكومة "الخمسية" حول توطين الوظائف العامة بالدولة والتى تشتهر بـ "التكويت". فمنذ صدور قرار مجلس الخدمة المدنية رقم 11 في سبتمبر2017؛ بدأت الكويت إجراءات متتالية لتكويت الوظائف من أجل تقليص العمالة الوافدة تدريجياً بالقطاع العام واستبدالها بأخرى كويتية خلال مدة 5 سنوات، في سبيل تقليل البطالة من المواطنين وعلاج خلل التركيبة السكانية.
لكن هذه السياسة لا تزال تعاني من بعض الصعوبات، مثل القضاء على البطالة المقنعة وربط عمليات التوظيف بالمعايير التنافسية في الأداء والتكامل مع احتياجات سوق العمل، وتدريب الخريجين على المهن التي لا يفضلها الكويتيين.
في هذا الصدد، قالت مصدر حكومي في تصريحات صحيفية إن إجراءات متابعة تنفيذ قرار مجلس الخدمة المدنية رقم 11 تتواصل، حيث تقابل أي طلبات استثناء من الإحلال للوزارات والجهات الحكومية بالرفض، ويتم ترشيح مواطنين مقابل كل طلب تعيين لغير كويتي يرد ديوان الخدمة المدنية في حال توافر في نظام التوظيف باحث عن عمل بالتخصص ذاته.
وفي عام 2018، أصدرت إدارة الفتوى والتشريع التابعة لمجلس الوزراء الكويتي قرارا بإنهاء خدمات جميع الوافدين المعينين بوظيفة "باحث قانوني"، وأرسلت كتاباً إلى ديوان الخدمة المدنية تبلغه بالقرار، وتطلب سرعة توفير موظفين كويتيين، وبذلك باتت الإدارة أولى الجهات الحكومية التي تطبق هذه السياسة وبنسبة 100%.
وأثارت صحيفة "الأنباء" المحلية، جدلا كبيرا في 2019 عندما كشفت عن وثيقة تُظهر أن الحكومة رصدت اعتمادات مالية لـ 90 ألف وظيفة لغير الكويتيين في الوزارات والمؤسسات الحكومية، بزيادة نحو 5 آلاف وظيفة جديدة للوافدين. في إشارة لعدم التزام الدولة نفسها بوعودها بالتكويت. ما دفع الحكومة إلى وقف تعيينات الوافدين في جميع الدوائر الحكومية، مع تشديدات كبيرة بمنع أي استثناءات من هذا القرار، في رغبة لتسريع عملية التكويت في الوزارات والهيئات الحكومية لأكثر من 90%، رغم التخوفات من عدم وجود البديل، والحاجة لموارد مالية وضمانات أمان وظيفي.
وفي عام 2020، أعلن وزير النفط وزير الكهرباء والماء، عن إصداره قراراً بإيقاف تعيين العمالة الوافدة في مؤسسة البترول الكويتية وشركاتها التابعة وتقنين عددهم في العقود الخاصة وعقود المقاولات. فيما قال وزير التجارة والصناعة إن ديوان الخدمة المدنية أعدّ دراسة فنية حول آلية تكويت الوظائف بالجهاز الحكومي، عبر كوادر وطنية في الديوان وتم عرضها على مجلس الخدمة المدنية، حيث صدر قرار تضمن قواعد وإجراءات تكويت الوظائف الحكومية.
حصاد التكويت
بحسب آخر إحصاءات ديوان الخدمة المدنية، فإن 4 مجموعات وظيفية حققت نسبة التكويت المنصوص عليها في القرار السابق، وهي وظائف التدريس والتعليم والتدريب، والوظائف المالية والاقتصادية والتجارية، ووظائف الثروة الحيوانية والزراعية والأحياء المائية، ومجموعة وظائف الأدلة الجنائية والوقاية والإنقاذ. بينما تقترب كل من الوظائف الهندسية، والدعم الإداري، ونظم وتقنية المعلومات، والتطوير والمتابعة الإدارية والإحصاء، والوظائف البحرية، من تحقيق تحقيق نسب التوطين المطلوبة وفقاً للقرار. بينما تعاني مجموعة وظائف الخدمات من تأخر في تحقيق النسب المطلوبة، فحتى سبتمبر الماضي، بلغت نسبة التكويت بها 59% فقط من المستهدف الذي البالغ 85%.
وتصل المعدلات المستهدفة في "تكويت" الوظائف الحكومية، إلى 100% في وظائف مجموعات نظم وتقنية المعلومات، والتطوير والمتابعة والإدارية والإحصاء، ومجموعة وظائف الدعم الإداري، والآداب والإعلام والفنون والعلاقات العامة، والوظائف البحرية، ونظم وتقنية المعلومات. بينما تصل النسبة إلى 98% في مجموعة الأدلة الجنائية والوقاية والإنقاذ، و97% في مجموعة الوظائف الهندسية، ومجموعة وظائف الخدمات الاجتماعية والتربوية والرياضية، و95% في كل من مجموعة الوظائف المالية والاقتصادية والتجارية، ومجموعة وظائف العلوم. بينما تصل إلى 85% في مجموعة وظائف الخدمات و80% في مجموعة الوظائف الحرفية، وتصل في وظائف الثروة الحيوانية والزراعية والأحياء المائية، إلى 75%، ومجموعة وظائف التدريس والتعليم والتدريب 70%.
وتبلغ تكلفة التكويت الشامل نحو مليار دينار سنوياً، لتعويض الفارق بين الرواتب، إذ يرتفع أجر الكويتيين عن الوافدين في نفس الوظائف. حيث يبلغ الفارق بين متوسط راتب الوافد وراتب الكويتي بالأجهزة الحكومية ما يقارب 820 دينارًا، وهو ما يجعل تكويت أكثر من 96 ألف وظيفة بالجهاز الحكومي يحتاج إلى قرابة 80 مليون دينار شهريًا. الأمر الذي سيرفع من بند دعم الأجور في موازنة الدولة.
وفي يناير الماضي، كشفت وثيقة صادرة عن إدارة الاقتصاد الكلي في مجلس الوزراء أن الحكومة تخطط لإنهاء خدمات كافة الوافدين في الوزارات الحكومية قبل نهاية عام 2022 وفق ثلاث مراحل، وتم تنفيذ المرحلة الأولى من خلال إنهاء خدمات ما يقرب من 4710 وافدين في البلاد. وأظهرت الوثيقة أنه بنهاية شهر يوليو المقبل سيتم إنهاء خدمات ما يقرب من 5146 وافداً في المؤسسات الحكومية الكويتية، فيما سيتم إرجاء المرحلة الأخيرة من الخطة إلى نهاية العام المقبل. وأضاف التقرير الذي نشرته جريدة العربي الجديد؛ أنه سيتم استثناء وزارات مثل التربية والصحة والعدل من خطة التكويت ضمن المراحل الحالية. غير أن الجهات الحكومية تواصل صياغة خطة بعيدة المدى لإحلال المواطنين بدلاً من الوافدين في تلك الوزارات أيضاً، مع إعادة النظر في مخرجات العملية التعليمية وسياسة الابتعاث التي سيتم ربطها باحتياجات سوق العمل.
التركيبة السكانية بعد كورونا
وفقا لتقرير بنك الكويت الوطني، فإن التعداد السكاني للكويت شهد في عام 2020 أعلى معدل تراجع على أساس سنوي منذ نحو 30 عاماً بنسبة 2.2%، وانخفض عدد السكان مرة أخرى بنسبة 0.9% منذ بداية عام 2021 وحتى النصف الأول منه ليصل إلى 4.62 مليون نسمة. وقال البنك إن هذا التراجع يعزى بشكل رئيسي إلى استمرار انخفاض أعداد الوافدين، في حين استمر عدد المواطنين الكويتيين في التزايد. وأضاف أن استمرار تطبيق سياسات توطين الوظائف "التكويت" وضعف البيئة الاقتصادية بسبب الجائحة أدت إلى إجبار الشركات على تسريح الموظفين، مما دفع الآلاف من الأسر الوافدة إلى مغادرة البلاد.
وكشف التقرير ربع السنوي للإدارة المركزية للاحصاء، عن تصدر العاملين الهنود والمصريين قائمة المغادرين لسوق العمل المحلي في ظل جائحة كورونا، إذ انخفضت الجنسية الهندية بنسبة 16.1% فيما انخفضت نسبة العمالة المصرية 9.8%.
ووفق الأرقام، فقد ارتفع تمثيل الكويتيين من إجمالي العاملين في القطاع الحكومي من 76.6% إلى 78.3% نتيجة مغادرة الوافدين، كما ازدادت نسبة الكويتيين العاملين في القطاع الخاص من 4.3% إلى 4.7% خلال العام 2021. ويرجع ذلك بسبب مغادرة 146949 وافداً للكويت خلال العام الماضي.
كما أشار التقرير إلى انخفاض نسبة العمالة من الوافدين غير الكويتيين المشاركين في سوق العمل الكويتي من 81.5% في 2020 إلى 78.9% في العام الماضي. وانخفضت العمالة الوافدة (باستثناء القطاع العائلي والعمالة المنزلية) بمعدل 9.3% بمقدار 198 ألفاً و666 فرداً منذ بداية جائحة كورونا. ووفقا لجريدة القبس فإن 257 ألف مقيم غادروا البلاد نهائياً في 2021 بالإضافة إلى 18.200 مقيم تم إبعادهم، كما غادر القطاع الخاص 205 ألف عامل من إجمالي 1.6 مليون عامل بالقطاع مقابل 73 ألف كويتي.
وتعمل الحكومة على حل مشكلة البطالة للمواطنين في ظل توقعات الزيادة السكانية المضطردة، حيث ســيرتفع عــدد الشــباب والشــابات فــي الكويــت بنســبة 50% خــلال 10 سنوات المقبلة، مع توقع زيادة نحو 200 ألف من الشباب من الجنسين لعـدد سـكان البلاد بحلول 2030.
وتتركز النسبة الأكبر للقوى العاملة الأجنبية في القطاع الخاص، بينما تتركز القوى العاملة الكويتية في القطاع الحكومي. الجدول التالي يوضح نسب القطاعين:
ويوضح الجدول التالي: التوزيع العددي للعمالة بالقطاعات الحكومية المختلفة:
تحديات كبيرة أمام "التكويت"
تواجه خطة التكويت جملة من التحديات، سواء قصيرة أو طويلة المدى، ويشير كثير من الخبراء إلى أهمية دراسة التداعيات المحتملة لعملية التوطين وحل التحديات المرتبطة بها أولاً بأول قبل أن تتعمق وتستعصي على الحل. وفي دراسته التاريخية بعنوان "قضية التوظيف في المجتمع الكويتي"، قال الدكتور "فريح العنزي"، المستشار الاجتماعي بمجلس الأمة إن النتائج الاجتماعية المترتبة على سياسة الدولة في التوظيف الحكومي هي أصل مشاكل الدولة الاقتصادية والمجتمعية، ملخصاً أهم هذه الآثار في:
· العزوف عن الأعمال اليدوية والمهارية، وخاصة في الأنشطة الخدمية، واحتكار العمالة الوافدة لها بسبب إحجام الكويتيين عنها والنظر لها بنظرة دونية.
· الإسراف والنزعة الاستهلاكية لدى المواطنين، وتخطّي الإنفاق العائلي أحيانا معدل الدخل.
· ارتفاع أعباء خدمة الأسرة، واعتماد العائلات على الأيدى العاملة الوافدة في الكثير من المناحي، مما زاد من الأعباء المالية لكل أسرة.
· غياب الخطاب الإعلامي التوعوي الذي يساعد المواطن على فهم قيمة العمل والانتاج في عملية التنمية.
في السياق ذاته، تمثل تحديات "البطالة المقنعة" و"اضطراب الموازنة العامة" و"نقص العمالة الماهرة بالقطاع الخاص" أبرز التحديات المباشرة لعملبة التكويت والتي يجب أن يوضع لها خطط مستقبلية.
أولا: تحدّي البطالة المقنعة
تعتبر البطالة المقنعة أحد المشاكل التي تواجه القطاع العام بالكويت، ويقصد بها التوظيف الوهمي؛ حيث يتقاضى الموظفون رواتب مقابل "عمل" أو "دوام" سواء كان ذا إنتاجية أم لا، وهو ما يؤدي إلى المساهمة في تشجيع الفساد وزيادة تكلفة الإنفاق الحكومي المرتفع على الأجور مقابل إنتاج محدود.
وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة لا تنسحب على جميع الموظفين، إلا أنه برزت الحاجة إلى صياغة ثقافة وظيفية جديدة من أجل تعزيز التخصص ومعيار الكفاءة. ويرى الخبراء أن أي تعديلاً جذرية في ثقافة الدولة للتوظيف لا يمكن أن ينجح دون مراجعة والتداخل مع الجانب السياسي والقبلي والنيابي في سياسات التوظيف في القطاع الحكومي ودعم مسارات تعميم الامتحانات التنافسية للمترشحين للوظيفة الحكومية، وتعديل معايير ترشيح ديوان الخدمة المدنية للمنتدبين في العمل الحكومي.
من وجهة نظر أخرى، قال رئيس اتحاد الصناعات الكويتية "حسين الخرافي" في تصريحات صحفية إنه لا يوجد بطالة في الكويت، بل يوجد عاطلين "محجمين عن العمل"، حيث أن الكثير منهم انتظروا عدة سنوات، وكان بإمكانهم أن يعملوا خارج إطار التوظيف الحكومي لكنهم وفضّلوا الانتظار، بينما تستقبل الكويت سنويا آلاف الوافدين على وظائف محددة، مضيفا أن الدولة قدمت خيارات للشباب منها الصندوق الوطني لدعم المشاريع الصغيرة من البنك الصناعي.
وكشفت جريدة القبس، عن دراسة برلمانية قُدمت العام الماضي، عن استمرار أزمة البطالة بالبلاد، وأكدت عبر مصدر حكومي أن عدد منتظري الوظيفة المسجلين في ديوان الخدمة المدنية بلغ أكثر من 15 ألف مواطناً ومواطنة، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن البطالة المقنعة بلغت 79%. وأوضحت الدراسة أن واقع معدلات النمو والتركيبة السكانية يؤكد أن سوق العمل تنتظره أعداد لا تقل في المتوسط عن 30 ألف طالب عمل كويتي سنويا خلال السنوات الخمس المقبلة. لكن الإحصائيات الرسمية الأخيرة لهيئة الإحصاء الكويتية قالت أن عدد البطالة بلغ في يونيو 2021، 7668 من الجنسين فقط.
فيما أظهرت إحصائية أخرى للهيئة عدد موظفي القطاع الحكومي، والذي بلغ من المواطنين عدد 323358 وبلغ للوافدين عدد 97515، حسب الجدول المرفق.
ووفقاً لدراسة أجراها مركز الخليج العربي للدراسات والبحوث حول سياسات التوظيف في الكويت في مرحلة ما بعد جائحة كورونا والتراجع المحتمل لأسعار النفط، قالت إنه من المرجح أن يعتمد الجهاز الحكومي سياسات انتقائية أكثر صرامة في توظيف القوى العاملة المهرة من أجل رفع القيمة المضافة للعمل الحكومي وتنمية دوره في خلق وتنويع إيرادات الدولة وترشيد فاتورة الأجور المرتفعة. مشيرة إلى أن القطاع الحكومي بات يواجه تحديات ضخمة ومتراكمة خاصة فيما يتعلق بتضخم الإنفاق على الرواتب مقابل محدودية الإنجاز والأداء وتراكم مديونية المؤسسات الحكومية. وقد يكون إصلاح بروتكول التوظيف في الجهات الحكومية أهم معضلة في علاقة السلطتين التنفيذية والتشريعية في المدى القريب بالنظر لعوامل متداخلة وتدخلات سياسية في سياسات التوظيف في الجهاز الحكومي، حسب توقعات الدراسة.
فيما توصلت دراسة أمريكية حول تأثير العمالة الوافدة والمهاجرين على نسبة البطالة بين السكان الأصليين في القطاع الخاص إلى أن المهاجرين ليسوا العامل الأكثر تأثيرا على بطالة المواطنين، وأشارت إلى أن الوافدين يخلقون فرصا عمل إضافية، وأن السبب الأساسي للبطالة قد يتمثل في البنية التنظيمية والقانونية للدولة سواء كان في تفاوت الأجور بين المواطنين والمهاجرين أو الثغرات القانونية في بيئة العمل أو تفاوت المهارات بين الوافدين والمواطنين، أو نوع التعليم، وغيرها من العوامل.
ثانيا، التأثير على الاقتصاد الكلي:
بالإضافة إلى كون الوافدين قوة شرائية كبيرة داخل البلاد، خاصة في المجال العقاري، فإنهم يمثلون مكوناً أساسياً في سوق العمل والحياة التجارية، وجزءاً من مسيرة الكويت الإنمائية في ظل توجهات الحكومة للتنويع الاقتصادي وتخطيط مرحلة ما بعد النفط، وتشارك هذه العمالة في المساهمة في ديمومة العديد من القطاعات الاقتصادية بالبلاد. ولا شك أن الوافدين كانوا جزءا من عجلة التنمية الاقتصادية بالكويت منذ استقلالها وأحد مصادر نمو السوق.
وحسب تقرير مرصد الأعمال الحرة في العالم 2020، فإن الوافدين باشروا أعمالا حرة ومشروعات خاصة بنسبة أكبر من المواطنينن مما خلق فرص عمل أخرى وساهم في التنمية. ويعزو تقرير الأمم المتحدة للهجرة لعام 2020 أسباب ذلك إلى أن "المهاجرين" عامة لديهم ما يسمى (عقلية النمو) حيث يتمتعون بقدرة عالية على التكيف مع الظروف، ولديهم ثقة أكبر وقدرة على المخاطرة التجارية، لأنهم خاطروا من قبل بالرحيل عن أوطانهم الأصلية للبحث عن فرصة جديدة، وبالتالي هم على درجة عالية من القدرة على المجازفة.
في هذا الإطار، يشكك بعض متخصصي الاقتصاد في إمكانية أن تستغني الكويت بشكل كامل عن العمالة الأجنبية لديها، لأنه سيؤثر على ميزان الإيرادات العامة من الرسوم وضرائب القيمة المضافة، كما أنه قد يبطئ من جهود الإصلاح، بما في ذلك خفض الانفاق العام على الرواتب والدعم. وفي وقت سابق، نقلت وكالة رويترز عن "طارق فضل الله" من مؤسسة إدارة الأصول بالشرق الأوسط، قوله بأن "تراجع عدد الوافدين سيقلص الطلب على كل شيء من البيتزا إلى الفيلات، والخطر هو أن يؤدي هذا إلى تأثير انكماشي متتالٍ وفقدان للوظائف الثانوية".
ولعب انخفاض أجور العمالة الوافدة دورا هاماً في تشكيل نتائج الاقتصاد الكلي على مدى العقود الماضية، وتبنّت الكويت هذا النموذج الذي يزيل القيود عن القطاع الخاص كأحد عوامل التنمية الاقتصادية، لكن هذا النموذج أيضا أوجد نمطاً من الإنتاجية المنخفضة والمثبطات لدى المواطنين، على الجانب الآخر
في السياق أيضاً، أسفر الانخفاض غير المسبوق في توافر العمالة الوافدة عن تضخم في الرواتب أدى إلى الإضرار بأرباح الشركات. ومن المرجح أن يؤدي ارتفاع تكاليف العمالة إلى تأخير الانتعاش الاقتصادي المتوقع بسبب الانتعاش من الجائحة وارتفاع أسعار البترول.
كما ستواجه خطة التنويع الاقتصادي بعض الصعوبات، لأن الصناعات كثيفة العمالة مثل البناء والتصنيع سيعرقلها ارتفاع متزايد في نفقات الأجور. ومن المقرر أيضاً أن يفقد الاقتصاد غير النفطي العمالة الماهرة، حيث يشغل العديد من الوافدين مناصب إدارية في أكبر الشركات والبنوك والمؤسسات المالية في الكويت.
على الجانب الآخر، يشكل بند دعم الأجور والمرتبات في المصروفات، الجزء الأكبر في موازنة العام الجديد والذي يستحوذ على 75% من إجمال المصروفات البالغة 22 مليار دينار تقريبا، ومتجاوزا حجم الإيرادات بنحو 3 مليار دينار كعجز مباشر في الموازنة المقترحة.
وصممت الموازنة على أساس خفض بند المصروفات عن العام الماضي في إطار خطة الإصلاح الاقتصادية التي تتبعها الحكومة، لكن وفقاً لتقديرات ديوان الخدمة المالية فإن تكلفة التكويت تتخطى مليار دينار سنويا، ما يعني أن بند المصروفات مرشح للزيادة وبالتالي العجز أيضاً.
وبالنظر إلى أن متوسط الأجور للوافدين في القطاع الخاص منخفض، ما يجعل هناك فجوة كبيرة بين الأجور في القطاع الخاص والحكومي، ما يعني أن عملية استبدال المواطنين بالوافدين لن تكون عملية سهلة. الجدول التالي يوضح متوسط أجور المواطنين والوافدين في القطاعين الحكومي والخاص، وفقا للهيئة العامة للمعلومات المدنية 2020:
ويتركز الكويتيين العاملين في الأعمال المهارية والحرفية والخدمات بنسبة أقل من 5% بينما يتركزون في الأعمال الإدارية والكتابية والبشرية بالقطاع العام. وذكرت وزارة المالية الكويتية في تقريرها السنوي حول السياسة المالية والنقدية أن قوة العمل الكويتية تتركز في أنشطة "الإدارة العامة والدفاع" بنسبة 79% ثم الأنشطة العقارية والإيجارية وخدمات الأعمال بنسبة 5.5% ثم قطاع الانشاءات بنسبة 4.3% والوساطة المالية بنسبة 2.1%.
بينما تركزت قوة العمل غير الكويتية في العمالة المنزلية بنسبة 30% ثم تجارة الجملة والتجزئة بنسبة 17% ثم الانشاءات بنسبة 16.7% ثم الانشطة العقارية والإيجارية وخدمات الأعمال بنسبة 6.4% والصناعات التحويلية بنسبة 6%.
في المحصلة النهائية سيصبح التوظيف الحكومي عبئا مالياً ضخماً على الحكومة في الوقت الذي كان أكثر جذباً للمواطنين عن القطاع الخاص، بسبب المحفزات المرتبطة به مثل الأمان الوظيفي والاستقرار، والعائد المادي المرتفع، وساعات العمل القصيرة نسبياً، ونظام الأجازات الأكثر مرونة، وهو ما أنشأ نفور متبادل بين القطاع الخاص والمواطنين الكويتيين.
على جانب آخر، يمثل الوافدين كتلة بشرية عالية الاستهلاك، مما يزيد الطلب على المنتجات والخدمات، مما يساهم في زيادة الإنتاج (عامل إيجابي) أو الاستيراد (عامل سلبي) لسد العجز، وكلها عوامل مؤثرة في الميزان التجاري للدولة. في الوقت نفسه تمثل الضرائب والرسوم المحصلة من الوافدين أحد أوجه إيرادات الموازنة العامة للدولة، وبلغت العام الماضي ما يقارب نصف مليار دينار، فيما أتت المساهمات الاجتماعية لكل من المواطنين والوافدين 40 مليون دينارا، بينما تشهد ودائع الوافدين في البنوك تذبذبا بسبب جائحة كورونا، وقد شهدت ارتفاعا ملحوظا عام 2018.
وعلى الرغم من أن تحويلات الوافدين المالية لخارج الكويت تؤثر سلبا على الاقتصاد، إلا أن أي جهود للدولة في تحفيز الوافدين على استثمار جزء من مدخراتهم في السوق الداخلي، سوف يحسن هذه المعادلة.
يرى الباحثين غولدين وكاميرون في دراستهم المنشورة تحت عنوان "كيف يشكل المهاجرون عالمنا" أن الوافدين في كل انحاء العالم يشكلون حافزا اقتصادياً حيث يكونون في الأغلب من الأصغر سنا ومتفرغين للعمل تماما وأكثر قدرة على تحمل الظروف الصعبة، مما يزيد من انتاجيتهم، ويخلقون فرص عمل أخرى بشكل تلقائي.
ثالثاً: هل يمكن تكويت القطاع الخاص؟
أكد تقرير صادر عن مجلة "إيكونوميست إنتلجنس" أن نزوح الوافدين بالكويت بسبب الجائحة أدى بالفعل إلى ركود اقتصادي فيما وجدت الحكومة وجدت نفسها عاجزة عن إحلال اليد العاملة الوطنية محل العمالة الأجنبية لأسباب أبرزها أن سوق العمل تحتاج إلى أيدي عاملة في مجالات يعزف عنها الكويتيون لتفضيلهم الوظائف ذات المكانة الأعلى والأجور الأفضل، ما أدى إلى نقص حاد في الأيدي العاملة في عدد من المجالات الحيوية مثل الصحة والتعليم.
ووفقا لتقرير صندوق النقد الدولي لعام 2015، فإن 69% من الكويتيين المسجلين بالجامعات تخصصوا في العلوم الإنسانية، و31% فقط تخصصوا في العلوم الهندسبة والطبية والتطبيقية والتكنولوجية، وهي نسب تعبر عن أسباب تركز المواطنين بالوظائف الحكومية الإدارية أكثر من التوجه للقطاع الخاص.
وقالت تقارير كويتية حديثة أن العديد من القطاعات الإنتاجية في الكويت تعاني من نقص شديد في أعداد العمالة اللازمة مما انعكس على ارتفاع تكاليف الإنتاج وزيادة أسعار السلع، ويتصدر القطاع الزراعي والإنتاج الحيواني ونشاط الصيد، وقطاع التصنيع؛ القطاعات الأكثر معاناة من نقص العمالة نتيجة صعوبة عودة آلاف العمال العالقين في بلدانهم منذ توقف رحلات الطيران في مارس 2020، وهو ما تسبب في زيادة أجور بعض فئات تلك العمالة بنحو 50% عن المعتاد. ومع عودة حركة الطيران إلى عدة دول، ظلت المشكلة قائمة بعد أن قررت السلطات حظر دخول القائمين من أكثر من 30 دولة ما لم يقض القادمون 14 يوما في دولة ثالثة مما رفع تكاليف عودة العمالة من أصحاب الرواتب المحدودة. فيما أصدرت السلطات الأمنية حينها قرارا بمنع دخول غير الكويتيين إلى البلاد ضمن سلسلة من الإجراءات الجديدة لمواجهة تزايد أعداد الإصابات بفيروس كورونا.
في السياق نفسه، أعلنت الهيئة العام للقوى العاملة أنها ألغت عدد 38873 إذن عمل لعمال انتهت إقاماتهم وهم خارج البلاد، بالإضافة إلى 20011 إذن عمل لعمال آخرون أبدوْا رغبتهم في المغادرة طوعياً، في النصف الأول من عام 2021 فقط.
لكن مراقبين في السوق الكويتي قالوا أن الطلب على الأيدي العاملة زاد بشدة عقب مغادرة أعداد كبيرة في ضوء الإجراءات الحكومية الأخيرة مما انعكس على ارتفاع الأجور، إذ زادت رواتب العمالة من نحو 180 دينارا شهريا إلى 290 دينارا في ظل وجود عجز يقدر بنحو 25%، وهو ما تسبب في زيادة أسعار المنتجات، وفقا لبعض التقديرات.
وفي قطاع المزارع والألبان، قال رئيس اتحاد منتجي الألبان في تصريحات محلية، أن أسعار الأعلاف ارتفعت بنحو 20% على خلفية إجراءات الشحن الجديدة وزيادة رسوم التخليص الجمركي، وشملت الأزمة انخفاض أعداد العمالة في المزارع بنحو 30%، حيث تعتمد المزارع بشكل رئيسي على العمالة الوافدة سواء الحلابين أو العلافين أو الأطباء البيطريين والمهندسين الزراعيين، وهي عمالة نوعية للقطاع الذي ينتج بين 170 ومئتي طن يوميا عبر 30 مزرعة يوجد بها نحو 30 ألف رأس من الأبقار، ويقدر استهلاك البلاد من الألبان ومشتقاتها بنحو 1400 طن يوميا.
فيما أشارت تقارير إعلامية أن نسبة الصيادين الموجودين خارج البلاد تقدر بنحو 75%، وهو ما أدى لتوقف جزء كبير من أنشطة الصيد، ما أدّى إلى نقص الكميات التي يتم صيدها يومياً مما تسبب في ارتفاع أسعار بعض الأنواع فضلا عن الخسائر الكبيرة للعاملين في نشاط الصيد.
وفي قطاع الصناعة أشار تقرير لصحيفة الأنباء المحلية، أن القطاع يعاني من مغادرة أعداد كبيرة من العمالة خلال العام الماضي، ما تسبب في نقص كبير بالأيدي العاملة الفنية والمؤهلة، مع صعوبة إصدار تأشيرات وأذونات عمل جديدة لتعويض هذا النقص، كما أن بعض المصانع اشتكت من عدم قدرتها على استقدام خبراء وفنيين كانوا قد حصلوا فعلا على تأشيرات دخول، لكن منع دخول الوافدين حال دون قدومهم إلى الكويت.
تداعيات طارئة
كانت أولى تداعيات التحديات السابقة هي إعلان مجلس جامعة الكويت في يناير الماضي عن وقف التكويت لمدة أربع سنوات مقبلة، لمواجهة اعداد الطلبة المقبولين خلال العام الدراسي الحالي في الجامعة، وتلبية المتطلبات الاكاديمية. وقرر المجلس عدم التقيد بما تضمنه القرار رقم 11 لسنة 2017 بشأن تكويت نسبة معينة من الوظائف.
وقالت الجامعة أن التكويت لديها سيكون على نحو يتناسب مع طبيعة العمل بها وحاجة مراكز العمل، وبما يتناسب وتحقيق التوازن بين التكويت وبين المحافظة على الكوادر والخبرات المتراكمة الفنية والادارية التي تحقق الارتقاء بمستوى التعليم الجامعي.
واستند مجلس الجامعة بموافقته على ارجاء التكويت، على قانون الجامعات الحكومية 76 لسنة 2019، والذي نص على أن يتولى مجلس الجامعة اختصاصات مجلس الخدمة المدنية في شؤون الهيئة الاكاديمية او العاملين بها، كما نص على «"يضع مجلس الجامعة اللوائح الادارية والمالية والاكاديمية للجامعة ويلتزم بالضوابط العامة التي يضعها مجلس الجامعات الحكومية". وكان ديوان الخدمة المدنية خاطب جامعة الكويت لانهاء خدمة 391 موظفا في الجامعة من غير الكويتيين من أصل 534 موظفا غير كويتيين، وذلك لتحقيق نسب التكويت الواردة في قرار الإحلال، معظمهم في مجموعة وظائف الدعم الاداري بواقع 92 موظفا، ومجموعة الوظائف الهندسية بمجموع 58 موظفا و22 موظفا في كل من نظم وتقنية المعلومات ووظائف العلوم، و14 موظفا في وظائف الاداب والاعلام والفنون والعلاقات العامة و17 موظفا في المالية والاقتصادية والتجارية، بينما توزعت باقي الاعداد على مجاميع الوظائف الاخرى.
ونصت مذكرة قرار الجامعة على أن مجلس الجامعة سبق أن طلب في أغسطس الماضي توفير متطلبات مواجهة زيادة مقاعد الطلبة، وذلك بدعم الميزانية واعتماد ميزانية اضافية، ووقف سياسة الاحلال بالجامعة لمدة أربع سنوات، والسماح بتعيين موظفين من ذوي الخبرة والكفاءة العملية من الكويتيين وغير الكويتيين لسد النواقص في الكوادر الادارية والفنية بالكليات ومراكز العمل مع توفير الدرجات اللازمة وزيادة رواتب العاملين بالجامعة.
توصيات إجرائية
وفقاً لدراسات أكاديمية، فإن تحسين مستقبل العمل والتوظيف بالكويت في ظل تأثيرات جائحة كورونا، يجب أن تشمل العديد من المحاور مثل:
1. تحسين منهجية الربط بين مخرجات التعليم وحاجة سوق العمل كماً ونوعا في مختلف التخصصات. وتحسين جودة التعليم العالي، مع خطة لتوجيه الطلاب للتوازن بين العلوم الانسانية والتطبيقية والعلمية، ورفع كفاءة الشباب عبر برامج تدريبية وتأهيلية لمهارات السوق والوظائف الأكثر طلباً في المستقبل.
2. التدريب والتأهيل على العمل الفني والمهني واليدوي للخريجين والتوعية بأهميته للفرد والمجتمع، وإعادة النظر في البرامج والمقرارات والأنظمة المختلفة للتعليم بما يتوافق مع المعايير المهنية العالمية، مع تشجيع إنشاء الجامعات الأهلية التي تستجيب أسرع لمتطلبات السوق الوطني والإقليمى من العمالة الفنية المدربة
3. اعتماد لوائح عمل تربط الترقي الوظيفي بمعايير واضحة في الأداء والإنتاج، وتشجيع التقاعد المبكر لإتاحة فرص أكبر للشباب، للحد من البطالة المقنعة.
4. رفع الحد الأدنى للأجور بالقطاع الخاص، وتشجيع الاسثمارات الخاصة وتأهيل الخريجين لاختراق سوق الأعمال الناشئة "Startups"، وعلاج الفجوات في الطلب بين القطاع العام والقطاع الخاص، بما يضمن تحفيز المواطنين إلى التوجه إلى القطاع الثاني، مثل البنية القانونية ونظام الأجور، والمحفزات الاستثمارية، وحواضن ومسرعات الأعمال، وقطاع ريادة الأعمال، ولوائح المنافسة، والإعفاءات الضريبية.
5. إعداد دراسة لتموضع الموظفين الوافدين في القطاع الحكومي عن طريق إجراء مسح "كفاءة وجدارة" للموظفين الأجانب ونظراؤهم من المواطنين، لتحسين كفاءة عملية الإحلال. ويمكن إنشاء جهاز مستقل لفحص المواهب وإقرار الاستثناءات بشأنها، في حال تقدم كفاءات من الوافدين لوظائف معينة، في محاولة لجذب الموهوبين والكفاءات والحفاظ عليهم كرأس مال معرفي وبشري بالدولة.
6. إنشاء نظام جلب العمالة الموهوبة، ويتطلب حصراً لكل الوظائف المطلوبة بالكويت، ومن ثمَ تدشين نظام علمي لجلب العمالة ذات المهارات العالية، وأصحاب المواهب والمهارات النادرة، والعلماء في مجال البحوث المختلفة خاصة التكنولوجية.